الخميس، 3 مارس 2011

الاحتراق النفـسي للمعلم العربي!


يروي فدريكو مايور ثاراجوتا مدير عام منظمة اليونسكو في كتابه "تأملات في مستقبل البشرية" هذه الواقعة لدى زيارته لواحدة من أفقر الدول الأفريقية، فعند زيارته لإحدى المدارس الريفية دخل أحد الفصول بصحبة ناظرها وكان المعلم مشغولاً بتعليم الطلبة أسرار الأبجدية ومفاتيح المعرفة، لم يجد مايور في الفصل سبورة أو طباشير، كانت بلا إمكانات تقريباً، وقدمه الناظر إلى المعلم والتلاميذ، قائلاً:
أقدم لكم البروفسور مايور
.فما كان من مايور إلاأن التفت إليه، معترضاً وقائلاً:قبل دخولي إلى هذه الحجرة كنت البروفسور مايور،أما الآن فأنت الأستاذ بحق، بل أنت البطل، ووجه عبارته إلى هذا المعلم المجهول الذييمارس مهنته في مثل هذه الظروف.نتحدث إذاً عن مئات الألوف من أبطالنا الذينيقوم العمل التربوي على أكتافهم، والذين يعملون أحيانا في ظروف صعبة، وإمكاناتضعيفة، لكنهم يحملون على كاهلهم، ويضعون في قلوبهم آمال المجتمع وثقته في إنجاز هذهالرسالة النبيلة نحو تلاميذهم.استرقاقالأنا!
وإذا كانت هذه المداخلة تتناول إحدى الظواهر الشائعة في المدرسة
العربية وهي ظاهرة الاحتراق النفسي للمعلم Burnout فإننا نشير إلى أن دور المعلميقع ضمن رؤية شبكية للتعليم يدغم فيها السياسي والفني، وهو ما يشير إليه المفكرالتربوي حامد عمار: "إن للتعليم بعدين رئيسيين: أحدهما هو البعد السياسي بمفهومهالشامل الذي يحكم حركة المجتمع داخلياً وخارجياً في فترة زمنية معينة، والبعدالثاني هو البعد الفني الذي تحكمه القواعد والعلوم التربوية والتنشئة الاجتماعيةوغيرها من العلوم الاجتماعية، حيث يتشابك هذان البعدان ويتفاعلان مع مختلف أنشطةالنظام التعليمي".إن التعليم الذي نعنيه أقرب إلى عملية التفتح، إنه عمليةتحرير المتعلم من استرقاق الأنا وضغط المؤسسة والجماعة، واكتشاف طاقاته وقدراتهوملكاته، كما يقول الروائي الروسي الكبير تولستوي "إن الحرية شرط لازم لكل تعليمحقيقي"، فماذا عن موقع المعلم العربي في هذا التعليم؟

الاحتراق النفسي للمعلم

تؤدي الضغوط الداخلية والخارجية التي
يتعرض لها المعلم إلى استنزاف جسمي وانفعالي، وأهم مظاهره فقدان الاهتمام بالتلاميذوتبلد المشاعر، ونقص الدافعية، والأداء النمطي للعمل، ومقاومة التغير وفقدانالابتكارية. ويؤدي افتقاد المعلم إلى الدعم الاجتماعي ومهارات التكيف لمستوىالأحداث إلى زيادة احتمال وقوع المعلم فريسة للاحتراق النفسي وتعدد مصادر الضغوطالمسببة للاحتراق النفسي للمعلم بين سلوك التلاميذ، وعلاقة المعلم بالموجه، وعلاقتهالعلمية بزملائه، والصراعات المدرسية، وعلاقة المعلم بالإدارة، والأعباء الإدارية،وضيق الوقت، وغياب التفاهم بين المعلم والإدارة، والمعلم وأولياء الأمور.وتشيردراسة "شواب وايوانيكى" إلى أن صراع الدور أدى إلى الإجهاد النفسي وتبلد المشاعر،كما أن المعلمين من فئة العمر (20-39) كان لديهم إجهاد نفسي أكثر من المعلمين فيعمر خمسين عاماً فأعلى، كما أظهر المعلمون الذكور اتجاهات سلبية نحو التلاميذ أشدمن اتجاهات المعلمات(8).مظاهر ومسببات
ومن
مظاهر الاحتراق النفسي فقدان الحماس للاهتمام بالعمل وبعملائه واللامبالاة، ويعيشالمعلم العربي في مناخ تنظيمي معقد وبارد: فصول مكدسة بتلاميذ ينتمون إلى مستوياتوأسر مختلفة، يفتقد أغلبهم الاهتمام بالتعليم، ويظهر ذلك في محاولاتهم الخروج علىالنظام، وتكبله سلطات بيروقراطية متربصة به وبعمله.ويشعر المعلم بالعزلة، وغيابالمساندة، والتجريد من السلطات، والنظرة المتشككة إلى ولائه وأدائه، والاستهتاربآرائه وخبراته عند إدخال تغييرات في العملية التعليمية، ويفتقد مؤازرة النقاباتوالتنظيمات المهنية كغيرها من نقابات المهن الأخرى، وتطارده الصورة المهزوزة التييكرسها الإعلام الجماهيري عنه.ومن بين العوامل المسببة لإحباط المعلم واحتراقهالنفسي تدخل الآباء في عمل المعلمين. فكثير من الآباء يجادلون المعلمين في عملهم،ويخطئونهم في أساليب تعاملهم مع أبنائهم، ويتشككون في قدراتهم وكفاءتهم، مما يهزثقة المعلم في نفسه، ويقلل من كون التعليم مهنة مغلقة ويحولونها إلى مهنة مكشوفةيتزاحم فيها غير المؤهلين سواء من الآباء أو من معلمي الضرورة غيرالمؤهلين.وتؤدي هذه الضغوط إلى سلب المعلم هويته المهنية المتخصصة دون غيره منالمهن الأخرى في المجتمع.كما يتصل بالظاهرة نفسها انخفاض المكانة الاجتماعيةللمعلم، فيلاحظ تقرير "لجنة هولمز" الأمريكية أن الطلاب لم يعودوا يقبلون على دراسةالتربية ليعملوا بالتدريس، ولم تعد تلك الدراسة تلقى إقبالاً يماثل الإقبال علىالدراسات الأخرى التي تؤهل الطالب لممارسة مهن تتمتع بقدر أكبر من المكانةالاجتماعية، أضف إلى هذا أن التدريس مهنة لا يحظى ممارسوها بالتقدير الماديالمناسب.فالمعلم يصاب بالاحتراق النفسي في ظل العوائق التي تحول دون قيامهبمهمته المهنية بشكل كامل بما يصيبه بالإحباط وضعف الدافعية.الباب المغلق إذا كانت نذر التغيير التي يحملها عالم التفجرالمعرفي والتكنولوجي، ورياح العولمة، وفردوس السوق، والهيمنة الاتصالية الفضائيةوالمعلوماتية تهدد سلطات المعلم التقليدية، إلا أنه من المبكر الحكم على عمل المعلمالعربي بالاستغناء، وخصوصاً في ظل سيادة التعليم الأبوي التلقيني، وثقافة الاستظهارووطأة العمل الصفي البيروقراطي، ولذا تظل الحاجة إلى عمل المعلم، وتطويره فيمدارسنا العربية حاجة متزايدة، وخصوصاً في ظل الطلب الاجتماعي المتزايد علىالتعليم، ومجانيته.وثمة أفكار يمكنها أن تطرح نفسها لتفسح حيزاً موارباً فيالباب المغلق أمام معلمنا العربي، وتخفف من حدة إجهاده واحتراق النفس عنده، ويمكنأن نطرح عدة أفكار في هذا الصدد!.أفكار للحد منالمشكلة
أولاً : تعظيم قدرة المعلم على التأثير والتغيير التربوي

وذلك
بإنهاء الانفصال المؤسسي بين المعرفة النظرية والممارسة في التربية، نتيجة تقسيمالعمل التقليدي بين منتج المعرفة وممارسها، وذلك ببناء مفهوم نقدي جديد لمعنى مهنيةالتعليم، وبناء علاقات بنيوية بين كليات التربية الجامعية وبين المدارس ومؤسساتالتعليم المختلفة، وذلك لتفسير الظروف البيئية التي يتم من خلالها إنتاج النظريةوأداء الممارسة بإدخال مشروع للتدريب الدائم للمعلمين داخل المدرسة ليخلق مدرسةمتمركزة حول التدريب المستمر في أثناء الخدمة بحيث يكون تدريباً متصلاً بواقعالحياة اليومية في المدرسة، وبناء مشاريع تتيح للأساتذة الأكاديميين في كلياتالتربية الجامعية العمل داخل المدارس بعض الوقت كخبراء أو مستشارين ومشرفين، أو فيالجماعات المهنية أو في المشروعات البحثية للمعلمين داخل مدارسهم.ثانياًتطوير نظم الإعداد بكليات التربية
ويتم هذا عن طريق الإصلاح التعليمي الشامل،
وزيادة التدقيق في تمهين التعليم وفرز الزبائن الملتحقين بالمهنة، وربما أقل قليلاًمما يطمح إليه تقرير لجنة هولمز (لا ينبغي بأن يسمح بأن ينضم إلى هذه المهنة سوىالأذكياء والمتفوقين) ورفع ما يسمى بالمحتوى المعرفي ومحتوى التقنيات التي تُتِمهذه المهنة داخل كليات التربية والاهتمام بالتربية العملية، أي تطوير إعداد معلمالمعلم.فلابد من تغيير الإعداد والتغيير بتطوير نظم إعداد المعلم العربيوتدريبه نحو مزيد من الإبداع، والكفاءة، والمكانة الاجتماعية.ويلاحظ تعددالاتجاهات المعاصرة في إعداد المعلم وتدريبه بين اتجاهات قائمة على أساس الكفاياتوتطوير أدوار المعلم، واتجاهات قائمة على أساس استخدام النماذج (تنموي/ سلوكيإنساني) واتجاه قائم على أسلوب تحليل النظم واتجاه قائم على أسلوب التدريس المصغر،واتجاه قائم على أساس التعليم من بعد، ويجب ألا يقتصر التجديد على برامج إعدادالمعلمين قبل الخدمة، بل بالنسبة لبرامج التدريب في أثناء الخدمةأيضاً.ثالثاً- تشجيع المعلم على أداء دوره النقدي
أي المبادرة بالتطور
التربوي المعقول، وتجديد الموقف التعليمي، ونقد الطريقة والمحتوى ومواصلة دراساتهالعليا وربطها بترقياته، وهذا النوع من العلميين المسؤولين والناقدين والمتعاونينوالشجعان يجعل المعلم ركيزة كل تغيير وتجديد، وكما يشير تقرير لجنة هولمز "من المهمأن تتيح هذه المهنة المجال للمبرزين والمتفوقين في الممارسة حتى يقودوا مسيرةالتطور وحتى يكون لهم دورهم في إدخال كل جديد وفعال، ويساهموا في تدريب زملائهموتطوير أدائهم التربوي".انطلاقاً من مبدأ اعتبار التعليم قضية أمن قومي،وربط الحق في التعليم بحقوق الإنسان والديموقراطية كإطار أوسع، فإن تطوير المدارسلكي تكون مكاناً أفضل للعمل والتعلم تصب في هذا الاتجاه، ومن هنا فإن دعم المعلمين،وتحسين ظروف عملهم وفي مقدمتها توسيع الحرية الأكاديمية، وتخفيف كثافة الفصول، ودعمتنظيماتهم المهنية، وتحسين أوضاعهم المادية تظل شروطاً مهيأة لتخفيف احتراقهمالنفسي، وإحباطاتهم المتزايدة. وتلخص خيرية قدوح هذا المسعى بقولها: "هل يمكن أننتوصل إلى أن نقدم للمعلمين فعلاً لا قولاً مستلزمات احترام الذات المنشودة دائماً،وذلك من خلال تأمين الشروط الاقتصادية والثقافية اللازمة لمثل هذا الإحساس أو ماينتج عنه من مواقف أو سلوكيات؟".

___________________________________________________________________________

1b983437.jpg picture by school929

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق